|
مجزوءة الوضع البشري
|
|
مفهوم الغير(البعد العلائقي)
|
تاطير اشكالي :
يندرج مفهوم الغير ضمن مجال العلاقات البشرية
بإبعادها الوجودية والمعرفية والوجدانية العاطفية، ويستفاد من التحليل الدلالي
لهذا المفهوم أنه بقدر ما يرتبط بالاختلاف والمغايرة، فإنه ينحصر فقط فيما هو
إنساني ليصبح الغير هو الآخر البشري المختلف بالقياس إلى طرف مقابل له هو الذات أو
الأنا، فالغير بهذا المعنى هو ما ليس أنا أو" الأنا الذي ليس أنا" حسب
تعبير سارتر، وبناء على ما سبق فإن التناول الفلسفي لمفهوم الغير يعتبر مجالا
للتأمل في الوجود الإنساني في مستواه العلائقي.
وهذا التناول
ينطلق من مفارقة أساسية تتمثل في ضرورة الغير للانا وإمكانية تهديد له في نفس
الوقت، فهل وجود الغير ضروري للانا أم مجرد وجودنا جائز وممكن ؟ وإلى أي حد يمكن
معرفة الغير وهل تتم هذه المعرفة إذا كانت ممكنة بوصفه ذات أم موضوعا ؟ وما الذي
يجعل العلاقة الوجدانية مع الغير إيجابية في حالات معينة (الصداقة، الأخوة، الحب)
وسلبية في حالات أخرى (الإقصاء الغرابة، الصراع ؟)
لقد اختلفت
مواقف الفلاسفة بخصوص التساؤلات المطروحة أعلاه ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مستويات
أساسية هي المستوى الوجودي الأنطولوجي، والمستوى المعرفي الفكري ثم المستوى
الوجداني العاطفي.
المحور الاول: وجــود الغيـــر (البعد الانطولوجي):
يعتبر
"هيجل" أول من فتح باب التفكير الفلسفي أمام إشكالية الغير، بينما يعتبر
"ديكارت" بمثابة الموقف الفلسفي الذي نشأت ضده الفلسفة
الهيجيلية، فما هو موقف كل من ديكارت وهيجل من وجود الغير؟
وهل وجود الغير
ضروري للأنا أم مجرد وجود جائز يمكن الاستغناء عنه؟
1- ديكارت والعزلة الأنطولوجية للأنا :
في بداية
العصور الحديثة أسس ديكارت فلسفة الذاتية التي يحتل الشك في إطارها مكانة أساسية
وفي هذه التجربة تحتل الأنا أو الذات منزلة تجعلها في غير حاجة إلى العالم
والآخرين لمعرفة ذاتها والتأكد من وجودها ؟ ذلك أن إثبات وجود الذات المفكرة حسب
ديكارت لا يحتاج إلا إلى الشك كعملية فكرية تقوم بها الذات نفسها، ومن تم فوجود
الذات مستقل عن وجود الغير أو الذوات الأخرى وبذلك
تكون نتيجة منطقية لفلسفة الذات التي قال بها وهي وحدانية الأنا أو الذات ما دامت
حقيقة أنا أفكر إذن أنا موجود هي الحقيقة اليقينية، أما وجود الغير فهو في المنظور
الديكارتي وجود غير ضروري، افتراضي واستدلالي قابل للشك ومحتمل جائز وممكن.
2-
هيجل
وجدل الأنا والغير :
تحليل
نص جدل الأنا والآخر (الغير) :
قضية النص وإشكاليته : ويعالج هيجل في هذا النص قضية العلاقة بين وجود الأنا ووجود الغير
محاولا الإجابة عن الأسئلة الضمنية التالية : أية علاقة بين الأنا والغير؟ هل هي
علاقة اتصال وارتباط جدلي وحاجة متبادلة أم هي علاقة انفصال واستقلال وقطيعة
واكتفاء ذاتي ؟ وبعبارة أخرى كيف يتحول وعي الذات من الوجودي البسيط أي الوجود
المجرد؟ هل من خلال الانغلاق والانعزال عن طريق الانفتاح عنه وصراع معه ؟
أطروحة النص :
انطلاقا من
منظور جدلي يؤكد هيجل في النص على أطروحة فلسفية يبرز من خلالها على أن الغير يمثل
ضرورة انطولوجية (وجودية) بالنسبة للأنا فلا غنى للأنا عن وجود الغير كما أنه لا
غنى للغير عن وجود الأنا وهذه العلاقة الجدلية تتم من خلال الصراع المرير الذي
يجري بين الأنا والغير ولعل علاقة العبد بالسيد خير دليل على ذلك.
أفكار النص :
|
الوجود
البسيط
|
الوجود
المجرد
|
|
طبيعي ومباشر
إقصاء
مطابقة الذات
شيء فردي غير
جوهري
الآخر موضوع
وجهان
مستقلان
وجهان
مستقلان في الحياة
غارقان في
الحياة
|
وجود خالص
الصراع من أجل الموت أو الحياة
المخاطرة بالحياة
الحفاظ على الحرية
الرغبة في الاعتراف
|
ارتباط الوعي في
مرحلة بوعي الذات كوجود مباشر وبسيط وطبيعي، يكون الأنا عبارة عن شيء فردي مطابق
لذاته وغير جوهري بينما يكون الآخر بالنسبة إليه مجرد موضوع سلبي بمعنى أن وجود كل
من الأنا والآخر يكون في هذه المرحلة على نمط وجود الأشياء التي ينتفي بينها
الاعتراف.
في مرحلة وعي
الذات كوجود مجرد وخالص لا تعود الذات متشبثة بالحياة ومنغمسة فيها بل نجدها تخاطر
بها من أجل انتزاع الاعتراف من الآخر وهنا يبدأ الصراع من أجل الحياة والموت.
بما أن الموت
الفعلي لأحد الطرفين المتصارعين لا يمكن أن يؤدي إلى اعتراف أي طرف للآخر لأن
المنتصر لا يمكن أن يكون محل اعتراف مفارق به فإن النتيجة هي استسلام أحد الطرفين
ليصبح عبدا وانتصار الطرف الآخر الذي يصبح سيدا.
-
التعليق على النص:
يتبين من خلال هذا النص أن الأطروحة الهيجيلية بخصوص
إشكالية وجود الغير تتمثل في التأكيد على الضرورة الأنطولوجية للغير بالنسبة للأنا
بحيث أنهما يتشكلان وينشأن في وقت واحد. ومن خلال صراع مرير يغامر فيه كل طرف من
أجل أن ينتزع الاعتراف من الآخر، وبما أن الرغبة في الاعتراف هي سبب هذا الصراع
الدموي بين الأنا والغير، فإن تحقيق الاعتراف يتطلب بقاء الخصمين معا على قيد
الحياة بأن يتنازل أحدهما للأخر ويرفض المغامرة بحياته مفضلا إياها عن الموت،
وهكذا تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى علاقة العبد (سيستسلم للسيد) (منتصر) كعلاقة
غير متكافئة تشكل أساس المجتمع البشري ما دام الإنسان حسب هيجل لا يكون إنسانا
وحسب، لكنه دائما وبالضرورة إما عبد أو سيد. من خلال جدل العلاقة بين العبد والسيد
يتضح إذن
أن وعي الذات لدى هيجل لا يتشكل إلا من خلال الصراع بينه وبين ذات أخرى، وهذا وجود
جائز كان من الممكن ألا يتكون كما الشأن بالنسبة لديكارت.
المحور الثاني : معـرفة الغيـــر :
إذا كانت المعرفة هي الفعل الذي يدرك بواسطته العقل موضوعا ما فإنها تقوم
على التقابل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة بحيث يكون الموضوع فاقدا للصفات
الإيجابية التي تتميز بها الذات كالوعي والإرادة والحرية والفعالية، ترى هل يمكن
معرفة الغير؟ وهل تتم هذه المعرفة إذا كانت ممكنة بوصفه ذاتا أم موضوعا؟
1-
سارتر واستحالة معرفة الغير :
يؤكد سارتر على أن اعتبار الغير قابلا للمعرفة يؤدي بالضرورة إلى اعتباره
موضوعا أو شيئا، وبالتالي سلب صفة الذات والأنا والوعي عنه، وبذلك تكون العلاقة
المعرفية بين الأنا والغير حسب هذا الفيلسوف الوجودي علاقة تشيئية تقوم على
الاستلاب والتفاوت في القيمة بين الأنا والغير، لأنها تصبح علاقة بين ذات أو موضوع
ومثل هذه العلاقة تقيم بين الأنا والغير هوة يستحيل عبورها مادام كل منهما يشيء
الآخر ويسلب منه مقوماته الإنسانية ولعل الخجل دليل على ذلك فهو إحساس يسري فجأة
في ذات عند إدراكها أنها أتت فعلا أو حركة غير مقبولة أمام نظرة الغير التي تجمد
فجأة تلقائياتها وعفويتها، وهذا ما تعينه العبارة الشهيرة لسارتر "الآخر
هو الجحيم"
2-
ميرلوبونتي وإمكانية معرفة
الغير
·
تحليل نص " الغير
والتواصل"
1- قضية النص وإشكاليته :
يعالج ميرلوبونتي في هذا النص قضية علاقة المعرفة بين الأنا والغير مع
إبراز أهم الشروط التي يجب توفرها من
أجل معرفة الغير محاولا الإجابة ضمنيا عن الأسئلة التالية : أية علاقة معرفية يمكن
للأنا أن تقيمها مع الغير؟ وهل يمكن معرفة هذا الغير؟ وما هي شروط هذه المعرفة إذا
كانت ممكنة وإلى أي حد يمكن للتواصل مع الغير أن يسهل (معرفة) عملية معرفته ؟.
أطرحة النص :
يقدم
ميرلوبونتي في هذا النص أطروحة فلسفية يقدم من خلالها على إمكانية معرفة الغير،
بشرط التواصل والتضامن معه والاعتراف به بدل تحويله إلى موضوع وتشيئه.
أفكار النص :
إن العلاقة بين
الأنا والغير لا تقوم بالضرورة على تحويل أحدهما بالآخر إلى موضوع إذا انعزل كل
منهما داخل طبيعته المفكرة وهذا غير ممكن.
إن نظرة بعضنا
إلى البعض الآخر يمكن أن تكون نظرة إنسانية قائمة على تقبل وفهم أفعالنا وأفعال
غيرنا بدلا إخضاعها للمراقبة.
التواصل مع
الغير هو الذي يمكن من تكسير هذه الحواجز التي تحول دون معرفته وهذا ما تبينه
علاقتنا بشخص مجهول، فهذا الأخير من أن ينطق بكلمة أي ما إن يبدأ في التواصل حتى
يتوقف عن التعالي علينا.
التعليق على النص :
تتجلى الأهمية
الفلسفية للنص في أن ميرلوبونتي يقدم من خلال أطروحته التي يؤكد فيها على إمكانية
معرفة الغير لأن العلاقة التشيئية الجحيمية ليست هي العلاقة الوحيدة بين الأنا
والغير إذ من الممكن أن تقوم هذه العلاقة على الاعتراف المتبادل والتعاطف والتواصل
الإيجابي وكلها شروط من شأنها أن تسهل عملية معرفة الغير، وهو ما يعني أن معرفة الغير
يمكن أن تتم بمشاركته وجدانيا فأن تشارك الصديق مثلا حزنه على فقدان عزيز عليه أو
غضبه من مكروه وتعرضه له، غير أن مثل هذا التصور لا يحل المشكل لأنه مهما شاركنا
الغير (مشاكله) مشاعره. فإننا لا نستطيع أن نعيش معه من هذه المشاعر كما يعيشها
هو. أضف إلى ذلك أن هذا التصور يقود إلى القول بإمكانية معرفة الغير عن طريق
الاستدلال بالمماثلة أي عن طريق معرفة الذات واتخاذها منطلقا لمعرفة الغير بصفة
شبيها بها ومماثلاتها. إلا أن استدلال من هذا النوع لا يحل إشكالية معرفة الغير
بصفة نهائية لأن معرفة الأنا لذاته ليست أسهل من معرفته الغير بل قد تكون أصعب إذ
أخذنا بعين الاعتبار قولة الفيلسوف نيتشه "أشد الناس بعدا عنك أنت نفسك"
من هنا أهمية الموقف الذي يقدمه الفيلسوف الفرنسي المعاصر.
2-
دولوز والغير كبنية :
لقد حاول
"دولوز" أن يتجاوز مختلف الثنائيات التي حكمت المواقف السابقة،
مقدما في هذا الإطار موقف يؤكد من خلاله على أن الغير بنية أو نظام من العلاقات
والتفاعلات بين الأفراد، يكمن خطأ الكثير من النظريات الفلسفية حسب دلولوز في أنها
اختزلت الغير ثارة إلى موضوع وثارة أخرى إلى ذات متجاهلة أنه بنية تسمح باستعمال
المجال الإدراكي، إننا لا ندرك الأشياء في شموليتها ومن جميع جوانبها إذ تفترض
دائما وجود آخرين مدركون ما لا ندركه أي يكملون إدراكنا لأشياء، هكذا نفهم حسب
دولوز كيف أن وجه مذعور يعبر عن عالم مثير للذعر والرعب والفزع، علم لم ندركه بعد
وبهذا المعنى فإن الغير يشارك الأنا إدراكه للأشياء ويكمله.
خلاصة المحور :
يستفاد من
المواقف السابقة أن العلاقة المعرفية مع الغير تتحدد تبعا للزاوية التي ننظر من
خلالها إلى هذا الغير (كذات، كموضوع، كبنية) وفي كل الأحوال فإن هذا النوع من
العلاقة مع الغير ليست هي العلاقة الوحيدة إذ أنها تتداخل مع عوامل أخرى وجدانية
أخلاقية، اقتصادية، سياسية، ثقافية ... إلخ.
المحور الثالث: الصداقة والغرابة كنموذجين متقابلين
لعلاقة الأنا بالغير :
تعتبر الصداقة نموذجا للعلاقة
الإيجابية مع الغير القريب، بينما تعد الغرابة نموذجا للعلاقة السلبية مع الغير
البعيد؟ فما الذي يعتبر كون العلاقة مع الغير تكون إيجابية بعض الأحيان وسلبية في
أحيان أخرى؟ وما الذي يجعل الصديق قريبا من الذات من الناحية الوجدانية في وقت
تكون هناك مسافة وجدانية بين الذات والآخر الغريب ؟ وبعبارة أخرى ما الذي يجعل
الصديق صديق والغريب غريبا؟
1- الصداقة كنموذج إيجابي للعلاقة
مع الغير :
تتمثل الصداقة انفتاحا للأنا على الآخر إنها علاقة حب وتعاطف متبادل بين
إنسانين يتعلق كل منهما للآخر تعلقا شديدا، فما هي الأسس التي تقوم عليها الصداقة
؟ هل تصادق الصديق لأنه شبيهنا أم لأنه ضدنا، لأنه وسيلة لتحقيق غاية معينة أم
لأنه غاية في حد ذاته؟
بالعودة إلى الفلسفة اليونانية، نجد بعض الأجوبة على بعض هذه الأسئلة وخاصة
مع أفلاطون وأرسطو.
أ-
الموقف الأفلاطوني والصداقة
كبحث عن الكمال :
أنت لا تصادق الصديق لأنه شبيه لنا لأن المتشابهين هم الذين يمتلكون حق
إزاء بعضهم البعض (الخزاف يحسد الخزاف، الشاعر يحسد الشاعر، المتسول لا يمكن أن
يكون صديقا للمتسول ...) العدو هو صديق والصديق هو صديق العدو والعدالة صديقة
الجور والخير صديق الشر .... ينتج عما سبق أن الصداقة حسب أفلاطون لا يمكن أن تتم
بين الطيب والطيب ولا يمكن بين الخبيث والخبيث ولا بين الطيب والخبيث ، إنما تكون
بين ما ليس طيبا ولا خبيثا من جهة، وبين الطيب من جهة ثانية. يعطي أفلاطون في هذا
الصدد مثال الصداقة التي تنشأ بين المريض والطبيب إن المرض شر والطب نافع وطيب بينما
الجسم من حيث طبيعته يكون معبرا على اللجوء إلى الطبيب وصداقته ونفس ما ينطبق على
علاقة المريض والطبيب ينطبق أيضا على علاقة فيلسوف بالحكمة بحيث لا يتفلسف سوى من
ليسوا بعد طيبين تماما ولا خبثاء تماما فالصداقة حسب أفلاطون تقوم على علاقة حب
متبادلة بين الأنا والآخر أساسها حالة وسطى بين الكمال المطلق والنقص المطلق إن
الصداقة بهذا المعنى نوع من بحث الذات في الغير عما يكملها.
ب-
الموقف الأرسطي والصداقة كفضيلة :
يميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الصداقة : صداقة المنفعة، صداقة المتعة
وصداقة الفضيلة على أساس أن ما نحبه إما أن يكون نافعا مفيدا أو منفعا لذيذا أو
خيرا حسنا، إلا أن أرسطو يعتقد أن الصديقين الأولين لا يستحقان اسم الصداقة إلا
على نحو مجازي لأنهما متغيران ومؤقتان يمكن أن يزول بزوال المنفعة والمتعة في
الموضوع المحبوب، وبذلك تكون الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة مادامت تقوم على
محبة الخير والجمال لذاتهما أولا وللأصدقاء ثانيا. وهذا ما يجعلها تتطلب المنفعة
والمتعة وتحققهما لا كغايتين بل كنتيجتين لحب الخير والجمال وعلى الرغم من قلة
وندرة هذا النوع من الصداقة فإن أرسطو يرى أنها ضرورية للحياة الاجتماعية طالما أن
المواطنين لو تعلق بعضهم ببعض برابطة الصداقة لما كانوا في حاجة إلى العدالة،
فالصداقة بهذا المعنى هي أساس الحياة وأساس استقرار وتماسك ووحدة المجتمع والملاذ
الوحيد للإنسان سواء كان غنيا أم فقيرا، عاديا أم صاحب سلطة .إن الصداقة حسب أرسطو
فضيلة تتحقق من خلالها سائرا لفضائل الأخرى.
من خلال الموقفين السابقين يظهر أن الصداقة كعلاقة بين الأنا والغير تقوم
على معاني إيجابية تتمثل في البحث عن الكمال (أفلاطون) أو الفضيلة (أرسطو) إلا
أنها تفترض مجتمع صغير يتألف من أقارب وأصدقاء فقط ولا تستحضر الغير البعيد.
3-
الغرابة كنموذج سلبي للعلاقة مع
الغير البعيد :
إن قيام المجتمع على الصداقة يفترض أن يكون مؤلفا من أقارب فقط أي مجتمعا
صغير مثل الأسرة والعشيرة أو المدينة بالمعنى اليوناني أما في المجتمع الكبير
والمفتوح على المجتمعات الأخرى فإن دائرة الصداقة تضيق ومجال الأصدقاء يتقلص وسط
الغرباء فما الغرابة؟ وكيف يجب أن نتعامل مع الغريب أو من نعتقد أنه غريب ؟ هل عن
طريق الإقصاء والرفض والنبذ أم بانتهاج سلوك التسامح والحوار؟
أ-
جوليا كريستفا والغريب كجزء من
الذات :
إن الغريب حسب كريستفا ليس هو ذلك الغير المختلف عن ديننا أو عرقيا أو
ثقافيا ولكنه يوجد في كل مكان من حيث كونه الأساس الذي نشكل به ذاتنا كما أنه يوجد
حتى داخل المجتمعات الموحدة أو التي تدعي أنها كذلك. وإذ تعرف كريستفا الغريب بشكل
سلبي حين تقول إنه ليس ذلك الدخيل المسؤول عن مصائب المدينة (المجتمع) ولا ذلك
العدو الذي يجب القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة فإنها تنتهي إلى القول أن
الغريب يسكننا على نحو غريب، أي أن الغريب بهذا المعنى جزء من الذات التي لا تتشكل
هويتها إلا به وعبره.
ب- الموقف الأرسطي : الصداقة كفضيلة.
تحليل النص " تكامل القافات"ص168 :
قضية النص وإشكاليته يعالج ستروين في هذا النص قضية العلاقة بين الأنا والغير
على مستوى الثقافي وسنجيب ضمنيا على الأسئلة التالية :
أية علاقة بين الأنا والغير على المستوى الثقافي ؟ هل هي علاقة اتصال
وتحالف وتكامل وتنسيق وحاجة متبادلة أم هي علاقة انفصال وانعزال وانغلاق وتقوقع
واكتفاء ذاتي ؟
أطروحة
النص : انطلاقا من النص
يؤكد الأنتربولوجي على أن العلاقة بين الثقافات هي علاقة تكامل وحدة واتصال وأن
ليس هنالك ثقافة مكتفية بذاتها كل الثقافات تحتاج لبعضنا البعض من أجل التطور
والتقدم.
أفكار النص :
Û
ليس التاريخ من صنع ثقافة واحدة ولكنه نتيجة لتنسيق
إرادي ؟ وغير إرادي بين ثقافات متعددة وهذا يعني أن الثقافات لا تقبل التفاضل فيما
بينها لأن كل ثقافة هي حصيلة تفاعل مع غيرها.
Û
الفرق بين التاريخ المتراكم والتاريخ الراكد ناتج عن نمط
وجود الثقافات ولاعلاقة له بالعرق بل تصدره كل ثقافة على الاستفادة من غيرها.
فالانعزال بهذا المعنى يمثل أهم عائق في تطور ثقافة ما.
Û
إن مساهمة الثقافات في تطور بعضها البعض يفرض على كل عضو
منها الشعور بالعرفان والتواضع إزاء الثقافات الأخرى مع الاعتراف بحق الغير في
الاختلاف ثقافيا.
تعليق على النص :
تتمثل
القيمة الفلسفية للنص في أنه يتضمن موقفا أنتربولوجي يدافع كلودليفي ستراوس من
خلاله عن العلاقة التكاملية بين الثقافات الإنسانية ولاشك أن الثقافة قد أثارت
اهتمام مختلف الباحثين الذين انكبوا على دراسة التنوع الذي يطبع أشكال الثقافة
البشرية سواء حسب المجتمعات أو حسب العصور، وقد ساد الاعتقاد لدى الغرب بأن التعدد
والاختلاف الثقافي يعكس اختلافا طبيعيا بين "الإنسان البدائي" و"الإنسان المتحضر" غير
أن "ستراوس" حطم هذا الاعتقاد وأثبت أن هناك بشرية واحدة مهما تعددت
وتنوعت ثقافاتها، وهذا ما أدى به إلى مناهضة كل أشكال التعصب العنصري ونزعة التفوق
والامتياز العرقي وغير ذلك من أنواع السلوك المحتقر لثقافة الغير، ورفض
"ستراوس" للتمييز بمختلف أشكاله راجع إلى إيمانه بعدم وجود علاقة بين
تقدم الثقافات وبين ما يدعى بالتفوق العرقي والاعتقاد أيضا بأن الازدهار الثقافي
والحضاري لا يمكن أن يتحقق إلا بتفتح الثقافات على بعضها البعض. فالتوصل والتعاون
الاستفادة المتبادلة مصدر إتراء وإغناء لذلك فهو ضروري لكل ثقافة.
إن
ستراوس وبناء على دراسة الثقافات الإنسانية يؤكد على أن العلاقة بين الأنا والغير
المختلف ثقافيا يجب أن تكون علاقة تواصل وحوار وتسامح واعتراف بالفضل المتبادل
بعيدا عن كل ندب وتعصب وعنصرية وتميز
وادعاء مزعوم بالتفوق والامتياز.
خلاصة
المحور :
تبين
من دراسة كل من الصداقة والغرابة أن العلاقة مع الغير يمكن أن تكون في كل الأحوال
علاقة إيجابية إذ غيرت الذات من نظرتها إلى الغير الغريب وإذا أخذت بعين الاعتبار
كون هذا الغريب ليس دائما عنصرا سلبيا مهدد للذات بل يمكن أن يكون جزءا منها (موقف
كريستفا) ومتكاملا معها من الناحية الثقافية (موقف ستراوس).
خلاصة الدرس :
يرتبط
مفهوم الغير كإشكالية فلسفية بعدة أبعاد متداخلة فيما بينها سواء على المستوى
الوجودي أو المعرفي أو الوجداني والثقافي؟ ويتبين من خلال هذه المستويات وباستحضار
مواقف مجموعة من الفلاسفة في هذا الإطار أن الغير ضروري للأنا وجوديا، وجدانيا
معرفيا ثقافيا وهو ما يفرض أن تقوم العلاقة بين الأنا والغير على أساس الحوار
والتسامح المتبادل بدل الإقصاء والتعصب وغيرهما من أشكال التعامل التي لا تأخذ
بعين الاعتبار حقيقة بسيطة أو حتى بديهية واضحة وهي أن الغير ضروري للأنا أو
الذات.



